لطائف التصوير البياني

07/07/2025
لطائف قرآنية
44 مشاهدة
د. مصطفى يعقوب

لطائف التصوير البياني

الهدف الرئيس: كشف جماليات التصوير البياني في القرآن الكريم وأثرها في ترسيخ اليقين وتعميق الإيمان

من أروع ما يطالعنا في كتاب الله العزيز ذلك الإبداع الفني المعجز في التصوير البياني، حيث تتجلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى في صياغة المعاني بطريقة تأسر القلوب وتستميل العقول، إنها لغة القرآن المعجزة التي تنبض بالحياة، فتجعل المعنوي محسوسًا، والمجرد ملموسًا، والغائب مشاهدًا، فتتحرك المشاعر وتهتز الأحاسيس، وترتسم في النفس صور بالغة الروعة والجمال.

سحر التشبيه في البيان القرآني

يعتبر التشبيه من أبرز الأساليب البيانية التي شكّلت مادة خصبة للإعجاز القرآني، فهو يقرّب البعيد ويوضح الغامض ويكسو المعنى رونقًا وبهاءً، ولعل أول ما يأخذ بالألباب في تشبيهات القرآن الكريم تلك الدقة المتناهية في اختيار المشبه به، والذي يكون غالبًا من البيئة المحيطة بالمخاطَب، ليقرّب إليه المعنى ويجعله في متناول إدراكه.

تأمل معي قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ [إبراهيم: 18]، إنه تشبيه تمثيلي بديع يصور حال أعمال الكافرين يوم القيامة، فهي كالرماد المتطاير في يوم شديد الريح، لا يُقدر على جمعه ولا يُنتفع به، وهكذا أعمال الكافرين لا نفع لها ولا فائدة ترجى منها، يقول ابن عاشور في "التحرير والتنوير": "شُبّهت أعمالهم بالرماد المُذرى في الريح في كونها ضائعة غير نافعة، لأن الرماد إذا ذَرَته الريح لا يُعثر عليه ولا يُنتفع به".

وما أعظم التشبيه البليغ في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ [يونس: 24]، فكأنك ترى مشهدًا متحركًا يعرض قصة الحياة الدنيا من بدايتها إلى نهايتها، من النماء والازدهار والزينة، ثم الفناء والزوال والانقطاع.

وكذلك ينبغي التوقف عند التشبيه الضمني في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ﴾ [النور: 15]، وهنا يتجلى الإعجاز في عكس الترتيب الطبيعي؛ فالتلقي عادة يكون بالأذن والقول باللسان، لكن الصورة القرآنية الرائعة صوّرت مشهد ناشري الإشاعات وكأنهم يتلقون الكلام بألسنتهم - كما تلتقط الحرباء فريستها بلسانها الطويل - دون تمحيص أو تدقيق، ثم يقولون ذلك بأفواههم؛ أي بملء أفواههم، كناية عن المبالغة والتضخيم في نقل الخبر، يقول الزمخشري: "التلقي بالألسن استعارة للسرعة في نقل الحديث ورواية الإفك بلا تثبت".

إبداع الاستعارة في النظم القرآني

تُعد الاستعارة قمة البلاغة والبيان، وتتجلى في القرآن الكريم بصور متنوعة تفيض حيوية وجمالًا، وما أروع الاستعارة المكنية في قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: 24]، حيث شبه التذلل والخضوع بجناح الطائر، ثم حذف المشبه به (الطائر) وأبقى شيئًا من لوازمه (الجناح)، في صورة بديعة توحي باللطف والرفق والتواضع البليغ للوالدين، يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي: "استعار سبحانه للولد حالة الطائر الذي يميل بجناحيه إلى أسفل دلالة على الانكسار والتواضع والرقة والذل للوالدين".

وتأمل الاستعارة التصريحية في قوله تعالى: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: 4]، فقد استعار الاشتعال للشيب، وحذف المشبه به (النار) مع الإبقاء على لفظ يدل عليه (اشتعل)، في تصوير بديع يوحي بانتشار الشيب في الرأس كانتشار النار في الهشيم، يقول الطاهر بن عاشور: "هذه استعارة بديعة، شُبه بياض الشعر بالنار في بياضها وإنارتها، وتفرقها بين السواد..، وشُبه شمول الشيب بالاشتعال، وهو انتشار النار وإحاطتها بما تشتعل فيه".

ومن روائع الاستعارة القرآنية قوله تعالى: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ﴾ [الشعراء: 94]، فكلمة "كُبكِبوا" استعارة تصريحية تصور مشهد إلقاء المشركين في جهنم بصورة الشيء الثقيل الذي يُلقى من مكان عالٍ فيتدحرج ويتكفأ، وتكرار المقاطع في الكلمة يوحي بتكرار السقوط والتدحرج، كأنهم حجارة أو حطب مُكسّر يُلقى في شاحنة نقل، وهذا ما يسمى في البلاغة بالمحاكاة الصوتية.

جمال الكناية في التعبير القرآني

تأتي الكناية في القرآن الكريم لتضفي على المعنى رونقًا وبهاءً، وتكسبه قوة وتأثيرًا، ومن أمثلتها الرائعة قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: 29]، فهي كناية عن البخل الشديد من جهة، والإسراف والتبذير من جهة أخرى، في صورة حسية مؤثرة تجسد المعنى وتقربه إلى الذهن.

وفي قوله تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ [الكهف: 11]، كناية بديعة عن النوم العميق الذي استغرق أصحاب الكهف سنين طويلة، فكأن الله ضرب حاجزًا على آذانهم يمنع وصول الأصوات إليها، يقول الزمخشري: "ضرب الحجاب على الآذان كناية عن النوم الثقيل".

التناسق البديع بين أساليب التصوير البياني

من وجوه الإعجاز البياني في القرآن الكريم ذلك التناسق البديع بين أساليب التصوير المختلفة، والذي يظهر جليًا في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: 39-40]، حيث تضافرت التشبيهات والاستعارات والكنايات لرسم صورة متكاملة لأعمال الكافرين، فهي إما كالسراب الخادع الذي يظنه الظمآن ماءً فلا يجد شيئًا، أو كالظلمات المتراكمة التي تحجب الرؤية تمامًا.

يقول سيد قطب في "التصوير الفني في القرآن": "يتخذ التصوير في القرآن طرائق شتى، فمرة يكون بالتشبيه، ومرة يكون بالاستعارة، ومرة يكون بالتمثيل، ومرة يكون بالحركة المتجددة، ومرة يكون باللون الجسم، وكله يؤدي غرضه بطريقته الخاصة وبجماله الخاص".

الأبعاد النفسية والعقدية للتصوير البياني

يتجاوز التصوير البياني في القرآن الكريم مجرد الزخرفة اللفظية أو الصنعة البلاغية، ليصبح وسيلة فعالة للتأثير في النفس البشرية وترسيخ العقيدة الإسلامية، فحينما يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم: 24-25]، فإنه يرسم صورة نفسية عميقة للكلمة الطيبة (كلمة التوحيد) وأثرها في حياة المؤمن، فهي كالشجرة الطيبة الراسخة الثابتة المثمرة على الدوام.

يقول ابن القيم: "شبه الله الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وجعل أصلها الإيمان الثابت في القلب، وفرعها العمل الصالح المتصاعد إلى السماء، وثمرتها الأعمال الزكية النافعة في كل وقت".

التصوير البياني وتنزيل الآيات على الواقع

تتجلى روعة التصوير البياني القرآني في قدرته على إسقاط المعاني على واقع الحياة، وجعلها نابضة حية في سلوك الإنسان، فعندما يتأمل المسلم قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: 261]، فإنه يرى بعيني قلبه صورة النماء والبركة التي تتضاعف فيها الحسنة سبعمائة ضعف، فيُقبل على الإنفاق في سبيل الله بنفس راضية مطمئنة.

وحينما يقرأ قوله تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 3]، فإنه يدرك بصورة حسية شناعة مخالفة القول للعمل، فيحرص على الصدق والوفاء في جميع شؤونه.

إن التصوير البياني في القرآن الكريم ليس مجرد أسلوب أدبي، بل هو منهج رباني لإحياء القلوب، وإيقاظ العقول، وتحريك المشاعر، وتوجيه السلوك نحو الصراط المستقيم، وهذا ما يجعل القرآن الكريم معجزًا في تصويره وبيانه، كما هو معجز في جميع جوانبه الأخرى.

ختامًا: التصوير البياني..، بوابة من بوابات اليقين

إن المتأمل في لطائف التصوير البياني في القرآن الكريم، ليدرك بوضوح أن هذا الكتاب العظيم لا يمكن أن يكون من كلام البشر؛ فدقته المتناهية، وتنوعه البديع، وتأثيره العميق، كلها تشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد، إنها بوابة من بوابات اليقين التي تقود المتدبر إلى الإيمان العميق بكلام الله العزيز.

وهكذا يظل القرآن الكريم ينبوعًا صافيًا للبلاغة والبيان، يغترف منه البلغاء والأدباء على مر العصور، ويقفون أمام إعجازه البياني في خشوع وإجلال، معترفين بعجزهم عن الإتيان بمثله، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88].