وبعد أن سردت لك يا طالب العلم حكاية الصحابيين الجليلين أبي بكر الصديق وحنظلة، وتحدثت عن معاناتهما الروحية، فها أنا أروي لك حرفية الرواية الثابتة بالنص، فاقرأه بتمعن وببصيرة على قاعدة الأستاذية ورواد المعرفة، واستخرج منه أدبيات العالم والمتعلم وأسلوب المعلم المتفنن في تمثيل الصور الغائبة لتصبح في ذهن المتلقي حية وطريقة خبير الروح ليعالج النفوس البشرية.
روى صاحب المعاناة ذو الإحساس الروحي المراقب لنفسه حنظلة بن الربيع أنه قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت؟ يا حنظلة! قال قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول اللهﷺ. يذكرنا بالنار والجنة. حتى كأنا رأيَ عين. فإذا خرجنا من عند رسول اللهﷺ، عافسنا الأزواج والأولاد والضَيَعات. فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله! إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِﷺ. قلت: نافق حنظلة. يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِﷺ "وما ذاك؟ " قلت: يا رسول الله! نكون عندك. تذكرنا بالنار والجنة. حتى كأنا رأيَ عين. فإذا خرجنا من عندك،عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً. فقال رسول اللهﷺ:"والذي نفسي بيده! إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة" ثلاث مرات.
هناك فارق زمني كبير في العمر بين الصحابيين أبي بكر الصديق وبين حنظلة بن الربيع رضي الله عنهما، فالكبير أبو بكر يتفقد من هو أصغر منه، فاتفق الأمر أنهما التقيا فبادر الكبير لسؤاله عن حاله، وكان الهم الأول لهؤلاء رواد معرفة الوحي وما يخطر في بالهم ابتداء حالة إيمانهم، فإن سلم الإيمان لهم فكل شيء بعد ذلك سهل وهين، فالإيمان والعلاقة بالله والفيض الروحي أولاً، أما الصحة والمال وغيرهما فمرتبة دون ذاك.
إن خطاب الرسول ﷺ في هذا النص يحمل في ثناياه توجيهاً دقيقاً رائعاً له أبعاده التشخيصية المناسبة للمخاطَب، وكلٌ بحسب رتبته:
البعد الأول: فقد توجه بالاسم وبالذات لسيدنا حنظلة بن الربيع "يا حنظلة ساعة وساعة" وأعاد ذلك ثلاث مرات بمسمع منه ومن أبي بكر رضي الله عنهما، تأكيداً له بأن المداومة لايطيقها كل أحد، وأنت منهم فلم تُكلَّف بها، بل أنت على الخط المستقيم، وأنت لم تقترف إثماً، وأنت لم تكن منافقاً.
البعد الثاني: ولم يوجه الخطاب إلى سيدنا أبي بكر رضي الله عنه لأن رتبته أعلى رتبة من سيدنا حنظلة، فرتبته الصديقية ولذا لقب بالصديق، وهي أعلى رتبة بعد النبوة، والخطاب القرآني العظيم يشير إلى هذه الرتبة : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] والخطاب النبوي الشريف يؤكد هذا اللقب لسيدنا أبي بكر عندما صعد جبل أحد وكان معه أبوبكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف الجبل: (اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق، وشهيدان). [البخاري ح 3472]
فالمعاناة الروحية وإن كانت واحدة في موضوعها، ولكنها تختلف في محتواها من شخص إلى شخص، فلو أن ثلاثة أشخاص مرضى وألمهم ووجعهم واحد في موضع واحد في البطن في الأمعاء مثلاً، فالطبيب بعد تشخيص كل مريض، يقول للأول: يجب أن نقوم بإجراء عملية جراحية لاستئصال المرض الخبيث في الأمعاء، والثاني يقول له: عليك أن تتناول هذا الدواء لفترة أسبوعين لأنه يوجد التهاب قوي، والأخير يقول له: هناك انفعال منك وضغط من عملك أدى إلى تشنجات، الأفضل أن تأخذ إجازة لفترة مع استرخاء تام، وخذ هذا الدواء لثلاثة أيام يساعد على حالة الاسترخاء. فقد اتحد المرض المادي وتعدد العلاج بطرق متفاوتة، وكذلك تتحد المعاناة الروحية ولكنها تتفاوت بين الأشخاص الذين يشتكون منها.
والحمد لله رب العالمين