لطائف التقديم والتأخير

12/06/2025
لطائف قرآنية
45 مشاهدة
د. مصطفى يعقوب

لطائف التقديم والتأخير:

الهدف الرئيس من المقال: الكشف عن أسرار التقديم والتأخير في القرآن الكريم كمظهر من مظاهر الإعجاز البياني وبوابة من بوابات اليقين.

ترتيب العقد اللؤلؤي.، حكمة التقديم والتأخير

ما أبدعَ نظم القرآن الكريم! وما أروعَ ترتيبَ كلماته! فكلُّ لفظةٍ تسكنُ مكانَها الذي لا يصلحُ لسواها، وكلُّ تعبيرٍ يستقرُّ في موضعِه الذي لا يليقُ بغيرِه، ولعلَّ من أعظمِ مظاهرِ هذا الإعجاز البياني ظاهرةَ التقديم والتأخير التي تتجلَّى في آياتِ الذكرِ الحكيم كالدُّررِ المنظومةِ في عقدٍ بديعٍ محكمِ الترتيبِ، دقيقِ التنسيقِ.

يقولُ الإمامُ عبدُ القاهرِ الجرجانيُّ في "دلائلِ الإعجازِ": "التقديمُ والتأخيرُ بابٌ كثيرُ الفوائدِ، جمُّ المحاسنِ، واسعُ التصرُّفِ، بعيدُ الغايةِ، لا يزالُ يَفترُّ لكَ عن بديعةٍ، ويُفضي بكَ إلى لطيفةٍ، ولا تزالُ ترى شِعرًا يروقُكَ مسمعُهُ، ويلطُفُ لديكَ موقعُهُ، ثمَّ تنظرُ فتجدُ سببَ أنْ راقَكَ ولطُفَ عندَكَ، أنْ قُدِّمَ فيهِ شيءٌ، وحُوِّلَ اللفظُ عن مكانٍ إلى مكانٍ".

فالتقديمُ والتأخيرُ في القرآن الكريم ليسَ مجردَ تغييرٍ في مواقعِ الألفاظِ أو تبديلٍ في ترتيبِ الكلماتِ، بل هو نظامٌ دقيقٌ يعكسُ منهجاً إلهياً في البيانِ، ويُجسِّدُ سِرّاً من أسرارِ الإعجازِ القرآنيِّ الذي تتحدَّى به العربَ - مع أنهم أهلُ اللسانِ وأربابُ البيانِ - فعجزوا عن الإتيانِ بمثلِه.

تقديم "إيَّاكَ" في الفاتحة.، حصرٌ وتخصيصٌ

ولعلَّ من أبرزِ الأمثلةِ على دقَّةِ التقديمِ والتأخيرِ في القرآنِ الكريمِ ما نجدُه في سورةِ الفاتحةِ، أمِّ الكتابِ وأساسِ القرآنِ، فتأمَّل قولَه تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، حيثُ قُدِّمَ المفعولُ به "إيَّاكَ" على الفعلِ والفاعلِ "نعبدُ"؛ لإفادةِ الحصرِ والتخصيصِ، فكأنَّ المعنى: لا نعبدُ إلا إيَّاكَ، ولا نستعينُ إلا بكَ.

يقولُ الإمامُ الرَّازي في "التفسيرِ الكبيرِ": "إنَّما قُدِّمَ المفعولُ على الفعلِ؛ لأنَّه الأهمُّ، فالمقصودُ أنْ تخصَّهُ بالعبادةِ والاستعانةِ، وتنفيَ عنهُ الشركاءَ والأضدادَ، وتقديمُ الأهمِّ أولى".

وألحِظْ معي كيفَ تكرَّرتْ كلمةُ "إيَّاكَ" مرَّتينِ، ولم يُقَلْ: "إيَّاكَ نعبدُ ونستعينُ"، وذلكَ لتأكيدِ الاختصاصِ في كلِّ جملةٍ على حِدةٍ، ولإبرازِ أهميَّةِ كلٍّ من العبادةِ والاستعانةِ، ولإظهارِ التَّلذُّذِ بمناجاةِ اللهِ والتَّشرُّفِ بخطابِهِ.

كما أنَّ تقديمَ العبادةِ على الاستعانةِ يُشيرُ إلى حقيقةٍ عميقةٍ في نفسِ المؤمنِ، فالعبادةُ غايةُ وجودِ الإنسانِ، وهي حقٌّ للهِ تعالى على عبادِهِ، أمَّا الاستعانةُ فهيَ حاجةُ العبدِ وطلبُهُ، فقُدِّمَ حقُّ اللهِ على حاجةِ العبدِ، وهذا من كمالِ الأدبِ مع الله جلَّ وعلا.

يقولُ الشيخُ محمد الطاهر بن عاشور في "التحريرِ والتنويرِ": "وفي تقديمِ العبادةِ على الاستعانةِ ما يُشعِرُ بأنَّ اهتمامَ المؤمنِ بحقِّ اللهِ مقدَّمٌ على طلبِ حظِّهِ، ولو عُكِسَ لكانَ العبدُ طالبًا حظَّهُ قبلَ قيامِهِ بحقِّ اللهِ تعالى، وكانَ في حظِّ نفسِهِ أقومَ منهُ في حقِّ ربِّهِ، وذلكَ خلافُ الأدبِ".

ترتيب المال والبنين في القرآن.، لكلِّ مقامٍ مقال

ومن بديعِ لطائفِ التقديمِ والتأخيرِ في القرآنِ الكريمِ اختلافُ ترتيبِ ذكرِ المالِ والبنينَ (أو الأموالِ والأولادِ) في مواضعَ مختلفةٍ، وفقَ ما يقتضيهِ المقامُ ويناسبُهُ السياقُ، وهو ما يكشفُ عن دقَّةٍ متناهيةٍ في انتقاءِ المفرداتِ وترتيبِها لتؤدِّيَ المعنى المقصودَ أدقَّ أداءٍ وأكملَهُ.

ففي سياقِ المَنِّ والتذكيرِ بالنِّعَمِ، نجدُ تقديمَ المالِ على البنينَ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ [الإسراء: 6]، وقولِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ جَنَّاتٍ وَأَنْهَارًا﴾ [نوح: 12]؛ ذلكَ أنَّ المالَ هوَ أوَّلُ ما يتطلَّعُ إليهِ الإنسانُ في الحياةِ، وبهِ تُبنى الحضاراتُ وتُشيَّدُ المجتمعاتُ، ثمَّ يأتي بعدَهُ البنونَ الذينَ هم زينةُ الحياةِ الدنيا.

أمَّا في سياقِ الحديثِ عن الفتنةِ والاختبارِ، فنرى تقديمَ الأولادِ على الأموالِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: 15]، وقولِهِ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: 28]؛ لأنَّ الفتنةَ بالأولادِ أشدُّ، والابتلاءَ بهم أعظمُ، والتعلُّقَ بهم أقوى، فالإنسانُ قد يُضحِّي بمالِه من أجلِ ولدِه، ولا يكادُ يُضحِّي بولدِه من أجلِ مالِه.

وفي سياقِ الحديثِ عن الزينةِ والمظاهرِ، يُقدَّمُ البنونَ على المالِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: 46]؛ ذلكَ أنَّ البنينَ أبهى زينةً وأظهرُ مفخرةً، فالعربُ كانت تفتخرُ بكثرةِ الأولادِ، وخاصَّةً الذكورَ منهم، ثمَّ يأتي بعدَهم المالُ.

يقولُ الدكتورُ فاضل السامرائي في كتابِهِ "التعبيرُ القرآنيُّ": "إنَّ القرآنَ الكريمَ يُقدِّمُ أحيانًا الأموالَ على الأولادِ، وأحيانًا يُقدِّمُ الأولادَ على الأموالِ، وكلُّ ذلكَ لمناسبةٍ في السياقِ، ولحكمةٍ بلاغيَّةٍ دقيقةٍ".

أنماط التقديم والتأخير في القرآن.، منظومة بيانية متكاملة

تتعدَّدُ أنماطُ التقديمِ والتأخيرِ في القرآنِ الكريمِ، وتتنوَّعُ صورُهُ وأشكالُهُ، ولكنَّها جميعًا تندرجُ ضمنَ منظومةٍ بيانيَّةٍ متكاملةٍ، تخضعُ لقوانينَ بلاغيَّةٍ دقيقةٍ، وتُحقِّقُ أغراضًا دلاليَّةً عميقةً، ومن هذه الأنماط:

تقديم الخبر على المبتدأ

من بديعِ صورِ التقديمِ والتأخيرِ تقديمُ الخبرِ على المبتدأِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم: 4]، حيثُ قُدِّمَ الجارُّ والمجرورُ "للهِ" على المبتدأِ "الأمرُ"؛ للتأكيدِ على مُلكيَّةِ اللهِ المطلقةِ للأمرِ كُلِّهِ، وأنَّهُ لا يخرجُ شيءٌ عن مُلكِهِ وتصرُّفِهِ، وفي هذا تثبيتٌ لقلوبِ المؤمنينَ، وتسليةٌ للنبيِّ ﷺ في مواجهةِ أعداءِ الدعوةِ.

وكذلكَ قولُهُ تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [آل عمران: 109]، فتقديمُ "للهِ" على "ما في السماواتِ وما في الأرضِ" يُفيدُ الاختصاصَ، أي: للهِ وحدَهُ ما في السماواتِ وما في الأرضِ، لا لغيرِهِ.

يقولُ الزمخشريُّ في "الكشَّافِ": "وتقديمُ الظرفِ فيهِ معنى الاختصاصِ، كأنَّ ما في السماواتِ وما في الأرضِ مختصٌّ باللهِ، لا يملُكهُ ولا يتصرَّفُ فيهِ سواهُ".

تقديم المفعول به على الفعل والفاعل

ومن الأنماطِ البارزةِ أيضاً تقديمُ المفعولِ بهِ على الفعلِ والفاعلِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ﴾ [الزمر: 66]، فقد قُدِّمَ لفظُ الجلالةِ "اللهَ" على الفعلِ والفاعلِ "فاعبُدْ"؛ للحصرِ والتخصيصِ، أي: اعبُدِ اللهَ وحدَهُ دونَ غيرِهِ، وهذا مِن أهمِّ مقاصدِ القرآنِ الكريمِ: توحيدُ اللهِ في العبادةِ.

وكذلكَ قولُهُ تعالى: ﴿رِزْقًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [عبس: 32]، فقد قُدِّمَ المفعولُ لأجلِهِ "رزقًا" على متعلِّقِهِ "لكم ولأنعامِكم"؛ للتنبيهِ على أنَّ كلَّ ما خلقَهُ اللهُ في الأرضِ إنَّما خلقَهُ للرزقِ والانتفاعِ، لا للعبثِ واللهوِ، وهذا تذكيرٌ بنعمةِ اللهِ الجزيلةِ على عبادِه، ودعوةٌ للتأمُّلِ في حكمةِ الخلقِ وغايتِه.

تقديم الجار والمجرور

ومن صورِ التقديمِ والتأخيرِ البديعةِ في القرآنِ تقديمُ الجارِّ والمجرورِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿عَلَيْهِمْ غَضِبَ اللَّهُ﴾ [الفتح: 6]، حيثُ قُدِّمَ "عليهم" على "غضبَ اللهُ"؛ للاهتمامِ بالمقدَّمِ وتخصيصِهِ، وكأنَّهُ يقولُ: عليهم وحدَهم غضبَ اللهُ، دونَ المؤمنينَ الملتزمينَ بهدي اللهِ ورسولِهِ.

وكذلكَ قولُهُ تعالى: ﴿أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ [النور: 50]، حيثُ قدَّمَ "في قلوبِهم" على "مرضٌ"؛ للإشارةِ إلى أنَّ المرضَ متمكِّنٌ مِن قلوبِهم، مستقرٌّ فيها، متغلغِلٌ في أعماقِها، وليسَ مجرَّدَ مرضٍ عارضٍ أو طارئٍ، بل هوَ مرضٌ متأصِّلٌ يحتاجُ إلى علاجٍ جذريٍّ، وهذا تحذيرٌ من خطورةِ أمراضِ القلوبِ، وبيانٌ لأثرِها في انحرافِ السلوكِ وفسادِ الفكرِ.

المنطق القرآني في التقديم والتأخير.، لمحات من الحكمة الإلهية

إنَّ ظاهرةَ التقديمِ والتأخيرِ في القرآنِ الكريمِ لا تسيرُ عشوائياً ولا تخضعُ للمصادفةِ، بل تنضبطُ بمنهجٍ دقيقٍ، ومنطقٍ مُحكَمٍ، يُراعي طبيعةَ الأشياءِ، وترتيبَها المنطقيَّ والزمنيَّ، وأهميَّتَها النسبيَّةَ، وأثرَها في النفسِ البشريَّةِ، ومن هذا المنطق:

التدرُّج من التخلية إلى التحلية

من بديعِ حكمةِ التقديمِ والتأخيرِ في القرآنِ الكريمِ التدرُّجُ مِن التخليةِ إلى التحليةِ، كما في تقديمِ التوبةِ على الرحمةِ في قولِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 37]، وتقديمِ الغفرانِ على الرحمةِ في قولِهِ: ﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يوسف: 98].

فالتوبةُ والغفرانُ هما تخليةٌ للنفسِ من الذنوبِ والمعاصي، والرحمةُ هيَ تحليةٌ لها بالفضلِ والنعمةِ، ومِن المنطقِ أن تسبقَ التخليةُ التحليةَ؛ إذ لا يُمكِنُ أن تملأَ إناءً بشيءٍ إلا بعدَ تفريغِهِ ممَّا فيهِ.

يقولُ الإمامُ ابنُ القيِّمِ في "مدارجِ السالكينَ": "مِن قواعدِ السيرِ إلى اللهِ: التخليةُ قبلَ التحليةِ، والتخلِّي عن الرذائلِ قبلَ التحلِّي بالفضائلِ، فلا بدَّ مِن تفريغِ القلبِ من حبِّ ما يُبغِضُهُ اللهُ أوَّلًا، ثمَّ ملئِهِ بمحبَّةِ ما يُحبُّهُ اللهُ ثانيًا".

تقديم الأهم فالأهم

ومن مظاهرِ المنطقِ القرآنيِّ في التقديمِ والتأخيرِ تقديمُ الأهمِّ فالأهمِّ، كما في تقديمِ الصلاةِ على الزكاةِ في قولِهِ تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، وتقديمِ السمعِ على البصرِ في قولِهِ: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ﴾ [الإسراء: 36].

فالصلاةُ أهمُّ من الزكاةِ؛ لأنَّها عمودُ الدينِ، وأوَّلُ ما يُحاسَبُ عليهِ العبدُ يومَ القيامةِ، والسمعُ أوسعُ إدراكًا من البصرِ، وأكثرُ تأثيرًا في اكتسابِ المعرفةِ؛ لأنَّهُ يُدرِكُ الأصواتَ من جميعِ الجهاتِ، بينما البصرُ لا يُدرِكُ إلا ما في الجهةِ المقابلةِ.

يقولُ الإمامُ الرازي في "التفسيرِ الكبيرِ": "قُدِّمَت الصلاةُ على الزكاةِ؛ لأنَّها أشرفُ الأعمالِ البدنيَّةِ، كما أنَّ الزكاةَ أشرفُ الأعمالِ الماليَّةِ، وقُدِّمَت الصلاةُ على الزكاةِ في أكثرِ المواضعِ؛ لشرفِها وفضلِها".

تقديم ما هو أسبق وجودًا

ومن مظاهرِ هذا المنطقِ أيضاً تقديمُ ما هوَ أسبقُ وجودًا، كما في تقديمِ السماواتِ على الأرضِ في قولِهِ تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [إبراهيم: 32]، وتقديمِ الليلِ على النهارِ في قولِهِ: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ [الفرقان: 62].

فالسماواتُ خُلِقَت قبلَ الأرضِ، والليلُ كانَ موجودًا قبلَ خلقِ النورِ، كما يُفهَمُ مِن قولِهِ تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: 1]، وهذا يعكسُ دقَّةَ التعبيرِ القرآنيِّ ومطابقتَهُ للحقائقِ الكونيَّةِ، ممَّا يزيدُ المؤمنَ يقينًا بأنَّ هذا القرآنَ من عندِ اللهِ الذي خلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّرَهُ تقديرًا.

يقولُ الإمامُ البقاعيُّ في "نظمِ الدررِ": "ومِن قواعدِ القرآنِ: تقديمُ الأسبقِ وجودًا، والأعلى مكانًا، والأجلِّ قدرًا، والأكثرِ فائدةً".

التقديم والتأخير بين الأساليب الإنشائية والخبرية.، بيان وإعجاز

يشملُ التقديمُ والتأخيرُ في القرآنِ الكريمِ الأساليبَ الإنشائيَّةَ والخبريَّةَ على حدٍّ سواءٍ، وكلٌّ منها لهُ دلالاتُهُ ومقتضياتُهُ البلاغيَّةُ، مما يُضفي على النصِّ القرآنيِّ جمالاً أخَّاذاً، وتنوُّعاً رائعاً، وثراءً دلالياً عميقاً.

ففي الأسلوبِ الإنشائيِّ، نرى تقديمَ ما هوَ أهمُّ وأولى بالعنايةِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: 6-7]، حيثُ كُرِّرَ لفظُ "صراط" في الآيةِ الثانيةِ، ولم يُقَلْ "الذينَ أنعمتَ عليهم"؛ لتوكيدِ أهميَّةِ هذا الصراطِ، ولبيانِ أنَّهُ طريقٌ مستقلٌّ واضحٌ، لهُ أهلُهُ وسالكوهُ مِن الأنبياءِ والصديقينَ والشهداءِ والصالحينَ.

وفي الأسلوبِ الخبريِّ، نرى تقديمَ ما يُرادُ تأكيدُهُ وترسيخُهُ في النفسِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، حيثُ قُدِّمَ الظرفُ "اليومَ" على الفعلِ "أكملتُ"؛ للتنبيهِ على أهميَّةِ هذا اليومِ، وعظمةِ الحدثِ الذي وقعَ فيهِ، وهوَ اكتمالُ الدينِ وتمامُ النعمةِ.

التقديم والتأخير في القصص القرآني.، منهج رباني فريد

من أروعِ ما يتجلَّى فيه إعجازُ التقديمِ والتأخيرِ القرآنيُّ القصصُ القرآنيُّ الذي يتميَّزُ بمنهجٍ فريدٍ في العرضِ والتقديمِ، يختلفُ عن أيِّ منهجٍ بشريٍّ في سردِ القصصِ وحكايةِ الأحداثِ.

فالقرآنُ الكريمُ يُقدِّمُ في القصةِ ما يُناسبُ السياقَ والمقامَ، ويؤخِّرُ ما لا يُناسبُ، وقد يذكرُ من أحداثِ القصةِ ما يخدمُ الغرضَ المقصودَ، ويحذفُ ما لا علاقةَ لهُ بهذا الغرضِ، وهذا من بلاغةِ الإيجازِ القرآنيِّ.

فمثلاً، في قصةِ موسى عليه السلام، نجدُ اختلافاً في ترتيبِ الأحداثِ حسبَ سياقِ كلِّ سورةٍ، ففي سورةِ طه يُقدَّمُ الحديثُ عن نداءِ اللهِ لموسى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ [طه: 17]، ثمَّ يأتي بعدَهُ ذكرُ المعجزتينِ: العصا والبيضاءِ؛ لأنَّ السياقَ هنا سياقُ تأنيسٍ وتطمينٍ لموسى عليه السلام.

أمَّا في سورةِ القصصِ، فيأتي الحديثُ عن رحلةِ موسى وأهلِهِ، ورؤيتِهِ للنارِ، ثمَّ النداءُ من جانبِ الطورِ: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ﴾ [القصص: 30]؛ لأنَّ السياقَ هنا سياقُ سردِ الأحداثِ بترتيبِها الزمنيِّ.

هذا التنوُّعُ في أسلوبِ العرضِ والتقديمِ يُحقِّقُ التكاملَ بينَ السورِ، ويُبرِزُ وجهاً من وجوهِ الإعجازِ البيانيِّ في القرآنِ الكريمِ، ويعكسُ اختلافَ مقاصدِ القصةِ من سورةٍ لأخرى.

التقديم والتأخير ونظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني

لقد أدركَ الإمامُ عبدُ القاهرِ الجرجانيُّ أهميَّةَ التقديمِ والتأخيرِ في بناءِ نظريَّتِهِ الشهيرةِ عن "النظمِ"، التي تُعَدُّ من أعمقِ النظرياتِ البلاغيَّةِ والنقديَّةِ في تراثِنا العربيِّ.

يقولُ الجرجانيُّ: "واعلمْ أنَّا لا نُعني بالنظمِ شيئاً غيرَ توخِّي معاني النحوِ وأحكامِهِ فيما بينَ الكلمِ"، فالنظمُ عندَهُ ليسَ مجرَّدَ رصفِ الكلماتِ جنباً إلى جنبٍ، بل هوَ ترتيبُها وفقَ ما يقتضيهِ المعنى، واختيارُ موقعِ كلِّ كلمةٍ بدقَّةٍ متناهيةٍ لتؤدِّيَ دورَها في بناءِ المعنى الكليِّ للنصِّ.

ويضيفُ: "ليسَ الغرضُ بنظمِ الكلمِ أن توالتْ ألفاظُها في النطقِ، بل أن تناسقتْ دلالتُها وتلاقتْ معانيها على الوجهِ الذي اقتضاهُ العقلُ"، وهذا ما يتجلَّى في القرآنِ الكريمِ بأبهى صورِهِ وأكملِ معانيهِ، حيثُ يأتي التقديمُ والتأخيرُ في كلِّ موضعٍ وفقَ ما يقتضيهِ المعنى وتستدعيهِ البلاغةُ.

الأبعاد النفسية والتربوية للتقديم والتأخير في القرآن

للتقديمِ والتأخيرِ في القرآنِ الكريمِ أبعادٌ نفسيَّةٌ وتربويَّةٌ عميقةٌ، تتجاوزُ الجانبَ اللغويَّ والبيانيَّ إلى التأثيرِ في النفسِ البشريَّةِ وتوجيهِها وتربيتِها على قيمِ الحقِّ والخيرِ والجمالِ.

فحينَ يُقدِّمُ القرآنُ المفعولَ "إيَّاكَ" في قولِهِ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فإنَّهُ يُعزِّزُ في نفسِ المؤمنِ قيمةَ الإخلاصِ لله تعالى، ويُنمِّي فيهِ روحَ التوحيدِ الخالصِ، ويُبعِدُهُ عن شوائبِ الشركِ والرياءِ.

وحينَ يُقدِّمُ الصلاةَ على الزكاةِ في قولِهِ: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، فإنَّهُ يُرسِّخُ في نفسِ المسلمِ أهميَّةَ العلاقةِ المباشرةِ بينَهُ وبينَ خالقِهِ، وأنَّها الأساسُ الذي تُبنى عليهِ سائرُ العلاقاتِ الاجتماعيَّةِ، التي تُمثِّلُها الزكاةُ.

وهكذا، فإنَّ لكلِّ تقديمٍ وتأخيرٍ في القرآنِ الكريمِ هدفاً تربوياً وأثراً نفسياً يتناغمُ معَ المقاصدِ العامَّةِ للقرآنِ في هدايةِ البشريَّةِ وإصلاحِ النفوسِ وتزكيةِ القلوبِ.

التقديم والتأخير في القرآن.، وأثره في الحياة المعاصرة

قد يتساءلُ البعضُ: ما علاقةُ هذه المباحثِ البلاغيَّةِ الدقيقةِ بحياتِنا المعاصرةِ؟ وكيفَ يُمكِنُ أن نستفيدَ من دراسةِ التقديمِ والتأخيرِ في القرآنِ الكريمِ في واقعِنا اليوميِّ؟

والحقيقةُ أنَّ فهمَ أسرارِ التقديمِ والتأخيرِ في القرآنِ الكريمِ يُمكِّنُنا من استنباطِ منهجٍ دقيقٍ في ترتيبِ الأولوياتِ وتحديدِ الأهميَّاتِ في حياتِنا، فنُقدِّمُ ما حقُّهُ التقديمُ، ونؤخِّرُ ما حقُّهُ التأخيرُ، فإذا كانَ القرآنُ يُقدِّمُ العبادةَ على الاستعانةِ، فلنُقدِّمْ في حياتِنا العطاءَ على الأخذِ، والواجبَ على الحقِّ، والعملَ على المنفعةِ، وإذا كانَ القرآنُ يُقدِّمُ التوبةَ على الرحمةِ، فلنُقدِّمْ في حياتِنا التزكيةَ على الترقيةِ، والتخلُّقَ على التعلُّمِ، والتخلِّيَ عن الرذائلِ على التحلِّي بالفضائلِ، وإذا كانَ القرآنُ يُقدِّمُ الصلاةَ على الزكاةِ، فلنُقدِّمْ في حياتِنا الصلةَ باللهِ على الصلةِ بالناسِ، والإحسانَ في العبادةِ على الإحسانِ في المعاملةِ، فإنَّ في كلِّ آيةٍ من آياتِ القرآنِ درساً حياتياً عميقاً، وفي كلِّ تقديمٍ وتأخيرٍ منهجاً تربوياً قويماً، يُمكِنُ أن نستلهمَهُ في بناءِ حياتِنا الفرديَّةِ والأسريَّةِ والاجتماعيَّةِ على أسسٍ صحيحةٍ متينةٍ.

خاتمة: التقديم والتأخير.، بوابة اليقين ومفتاح التدبر

إنَّ التقديمَ والتأخيرَ في القرآنِ الكريمِ ليسَ مجرَّدَ ظاهرةٍ لغويَّةٍ أو أسلوبٍ بيانيٍّ، بل هوَ بابٌ واسعٌ من أبوابِ الإعجازِ القرآنيِّ، وبوابةٌ عظيمةٌ من بواباتِ اليقينِ، ومفتاحٌ ثمينٌ من مفاتيحِ التدبُّرِ والفهمِ العميقِ لكتابِ اللهِ تعالى.

ولو أنَّ مُتدبِّراً تتبَّعَ مواضعَ التقديمِ والتأخيرِ في القرآنِ الكريمِ، وتأمَّلَ أسرارَها ولطائفَها، لرأى من دقَّةِ النظمِ القرآنيِّ، وروعةِ البيانِ الربَّانيِّ، وعمقِ الحكمةِ الإلهيَّةِ، ما يملأُ قلبَهُ يقيناً بأنَّ هذا الكتابَ لا يُمكِنُ أن يكونَ من كلامِ البشرِ، وأنَّهُ تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ.

لقد بلغَ الإعجازُ البيانيُّ في القرآنِ الكريمِ ذروتَهُ في دقَّةِ اختيارِ مواضعِ التقديمِ والتأخيرِ، وتناسُبِها معَ المعاني المقصودةِ، وتلاؤمِها معَ السياقاتِ المختلفةِ، حتى لو حاولتَ تغييرَ موضعِ تقديمٍ أو تأخيرٍ واحدٍ، لاختلَّ المعنى واضطربَ النظمُ وفسدَ البيانُ.

ومصداقُ ذلكَ قولُهُ تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، فمن تدبَّرَ القرآنَ حقَّ التدبُّرِ، لم يجدْ فيهِ اختلافاً ولا تناقضاً، بل وجدَ نظاماً مُحكَماً، ونسقاً متناسقاً، ونظماً بديعاً، تتناغمُ فيهِ المقدَّماتُ معَ النتائجِ، والألفاظُ معَ المعاني، والصورُ معَ المضامينِ، في تناسقٍ عجيبٍ، وإعجازٍ فريدٍ، لا يُمكِنُ أن يصدرَ إلا عن خالقِ الكونِ ومبدعِهِ.

فالحمدُ للهِ الذي جعلَ كتابَهُ معجزةً خالدةً، وهدايةً دائمةً، وبوابةً للمعرفةِ واليقينِ، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ، الذي حملَ هذا النورَ إلى البشريَّةِ، وبلَّغَهُ كما أُنزِلَ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.