إن ارتباط طالب العلم بالملائكة عليهم السلام ارتباط إيماني وثيق، وإن الفكرة التي يغفل عنها كثير من طلبة العلم هي الاستشعار بالملائكة عليهم السلام، وهناك فرق كبير بين الاعتقاد بالملائكة اعتقاداً قلبياً؛ بمعنى أن المرء يؤمن بركن أساس، وهو الإيمان بالملائكة إيماناً ثابتاً لا شك فيه، وهذا أمر بدهي عند المؤمنين، ومن الضروري في الدين علمُه، ضمن منظومة إيمانية مترابطة، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فنلاحظ الترتيب لهذه المنظومة الإيمانية:
في النص القرآني العظيم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]
وفي النص النبوي الشريف في سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان لرسولنا ﷺ) قال: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ. وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" قَالَ: صَدَقْتَ) البخاري ح8.
فالإيمانُ بالله وحده مرتبط بالإيمان بالملائكة؛ لأنها ناقلة للوحي الذي يخبر عن مراد الله للخلق، وهو الكتب كالتوراة والإنجيل والقرآن، والوحي من الله منزل من الملائكة على الأنبياء والرسل عليهم السلام، فالإيمان بالكتب وبالرسل مرتبطان بالإيمان بالملائكة عليهم السلام، والإيمان بالرسل مرتبط باليوم الآخر؛ لأنهم يُبعثون لإخبار الخلق بهذا اليوم العظيم الذي فيه حساب وهو يوم الجزاء والعقاب، فيحاسبون أنفسهم في الدنيا قبل يوم الحساب، والإيمان بالقدر هو التسليم والخضوع الكامل للخالق جلَّ وعلا، وهو غاية الرسالات الربانية وهو مراد الله تعالى حتى يعرف المخلوق رتبته بالعبودية المطلقة لله جل جلاله.
وبيَّن الشعور الحضوري بالملائكة عليهم السلام، بمعنى أن طالب العلم عليه أن يتحسس وجود الملائكة في مسيرته العلمية، كلما ذهب ليتعلم مسألة أو جلس في مجلس علم، لأن الملائكة تحفُّه وتظله، فلو تأمل طالب العلم حديث رسول الله ﷺ:( إنَّ طالبَ العِلْمِ لتحُفَّهُ الملائكةُ وتَظُلَّهُ بأجنحتِها ثم يركبُ بعضُهم بعضًا حتى يبلغوا السماءَ الدنيا من حُبِّهِمْ لما يطلبُ ) الطبراني في المعجم الكبير، لأخذته رعشة إيمانية عالية، وابتهج قلبه فرحاً بحفاوة الملائكة له وانكب لطلب العلم في غاية الصفاء الروحي.
فطالب العلم الحقيقي يحاول أن يستشعر هذه الصورة في ذهنه وفي قلبه قدر ما استطاع، مما يؤدي ذلك إلى الانطباع في نفسه قوة حضور الملائكة في مسلكه العلمي، فيكون لطلب العلم معنى ذوقياً عالياً.
لمَ نخصُّ طالب العلم بهذا الاستشعار أكثر من غيره؟
طالب العلم يختلف عن غيره، لأنه يبحث عن المعرفة حتى ينمي عقله وفكره وقلبه وروحه، وهو يشق طريقه بالجهد والجد والسهر في طلب العلم حتى يصل إلى رتبة العلماء، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]
فالبحثُ عن معلومات تفصيلية عن الملائكة عليهم السلام والتوغل في هذه الدراسة من خلال نصوص الكتاب العظيم والسنة المطهرة ومن خلال كتب التفسير وكتب شروح الحديث وكتب العقيدة أمر مطلوب ومفيد ورائع، ولكن هناك جانب آخر على طالب العلم أن يتعمق فيه هو الشعور الحضوري القلبي للإيمان بالغيب، لأن عقيدتنا غيبية بامتياز؛ فالغيبُ شيء موجود لا نراه، ولكن نؤمن به إيماناً عميقاً {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 2، 3] فالله موجود {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] لاتراه في الدنيا ولكن تؤمن به، والملائكة والوحي واليوم الآخر والقدر كلها غيبيات، آمنا بها وصدقناها، ولكن ارتقى الإسلام بالفرد المؤمن بسبب إيمانه العميق أن يمنحه الشهادة - والشهادة هي فيها كل المحتوى الإيماني الغيبي- فيقول: أشهد أن لا إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. فيتحققُ فيه الشهادة الإيمانية العلمية القلبية ويترقى بهذه الشهادة بحسب اجتهاده إلى مرحلة الشهود والفتح الرباني. {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29]
فطالب العلم الذي يستشعر الحضور الغيبي للملائكة الكرام عليهم السلام في أحواله العلمية ودراسته وتلقيه وتعلمه وحفظه وقراءته سيمنحه الله حظاً وافراً من نورانية هذا العالَم النوراني.