لطائف التكرار: الحكمة اللغوية في ظاهرة التكرار القرآني

21/05/2025
لطائف قرآنية
112 مشاهدة
د. مصطفى يعقوب

 لطائف التكرار

الحكمة اللغوية في ظاهرة التكرار القرآني

يَتَجلَّى إعجازُ القرآنِ الكريمِ في كلِّ آيةٍ من آياتِه، وتَبرُزُ مِن بينِ هذه المظاهرِ الإعجازيةِ ظاهرةُ التَّكرارِ؛ تلكَ الظاهرةُ التي أساءَ فَهمَها المُستشرقونَ ومَن سارَ على دَربِهم، فَزَعموا أنَّها تَكرارٌ مَحضٌ لا طائلَ منه، والحقُّ أنَّ ما يُسَمَّى بالتَّكرارِ في القرآنِ ليسَ إلا تَصريفًا للقولِ وتنويعًا للأُسلوبِ وتَجديدًا للمعنى في كلِّ سياقٍ، وهوَ ما سمَّاهُ العلماءُ "التَّكرارَ المُعْجِزَ".

يقولُ ابنُ قتيبةَ (ت 276هـ) في كتابهِ "تأويلُ مُشكِلِ القرآنِ": "وقد أتى في القرآنِ تَكرارُ القصَصِ والأنباءِ، فاختَلفَت الألفاظُ واتَّفقتِ المعاني، وذلكَ ضَربٌ من الفصاحةِ يَتَّسِعُ فيه المَجازُ، ويَكثُرُ فيه الاتِّساعُ"، ويُضيفُ الإمامُ الزَّركشيُّ (ت 794هـ) في "البرهانِ في علومِ القرآنِ": "إنَّما يُعابُ التَّكرارُ إذا خلا عن فائدةٍ، أمَّا إذا تَضَمَّنَ فائدةً فَهوَ من مُقتضياتِ البلاغةِ".

والمُتأمِّلُ في بديعِ النَّظمِ القرآنيِّ يَجِدُ أنَّ كلَّ لفظٍ يُكرَّرُ في القرآنِ يأتي مُحمَّلًا بمعانٍ جديدةٍ تُناسبُ سياقَه، فالتَّكرارُ في القرآنِ ليسَ إعادةً للكلامِ بذاتِ اللَّفظِ والمعنى، بل هوَ إعادةٌ بَديعةٌ تَحملُ في كلِّ مرَّةٍ لَمساتٍ بيانيَّةً جديدةً، وإشاراتٍ روحيَّةً عميقةً، وإيحاءاتٍ نفسيَّةً دقيقةً.

الأبعاد النفسية والتربوية في التكرار القرآني

إنَّ للتَّكرارِ في القرآنِ الكريمِ أبعادًا نفسيَّةً وتربويَّةً عميقةً، فهوَ يُخاطِبُ النَّفسَ البشريَّةَ التي تَحتاجُ إلى التَّذكيرِ المُستمرِّ والتَّنبيهِ المُتكرِّرِ، يقولُ العلاَّمةُ ابنُ القيِّمِ (ت 751هـ): "إنَّ النَّفسَ تَحتاجُ إلى التَّكرارِ لتَثبيتِ المعنى وتَرسيخِه؛ لأنَّها سَريعةُ النِّسيانِ، كثيرةُ الغَفلةِ، والتَّكرارُ فيه إيقاظٌ لها مِن سِنَةِ الغَفلةِ، وتَنبيهٌ لها على مَواضعِ العِبرةِ".

وتأمَّل معي رَوعةَ التَّكرارِ في سورةِ الرَّحمنِ في قولِه تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ التي تَكرَّرَت إحدى وثلاثينَ مرَّةً، كيفَ تأتي هذهِ الفاصلةُ بعدَ كلِّ نِعمةٍ مِن نِعَمِ اللهِ على الثَّقَلينِ، لتُخاطِبَ الإنسانَ والجانَّ وتَهزُّ وجدانَهما هزًّا، وتُوقِظُ ضمائرَهما إيقاظًا، كأنَّها صَفعاتٌ مُتتاليةٌ على وجهِ الجاحدينَ، ودَقَّاتٌ مُتتابعةٌ على قلوبِ الغافلينَ.

يقولُ الشيخُ سيِّد قُطب (ت 1966م) في "الظِّلالِ": "إنَّ هذا التَّكرارَ ليسَ للتَّزيينِ فحسب، بل هوَ يُمثِّلُ إيقاعًا موسيقيًّا يَنساقُ معَ تَموُّجاتِ المشاهدِ والظِّلالِ في سياقِ السُّورةِ، وهوَ يُمثِّلُ كذلكَ إلحاحًا على استجاشةِ الوجدانِ البشريِّ ليعترفَ بنِعَمِ اللهِ عليه، ويَشكُرَ فَضلَه".

دلالات التكرار القصصي في القرآن

أمَّا تَكرارُ القصصِ القرآنيِّ فهوَ مِن أعظمِ شواهدِ الإعجازِ البيانيِّ، إذ تَتكرَّرُ القصَّةُ الواحدةُ في عِدَّةِ مواضعَ، ولكنْ في كلِّ موضعٍ بأسلوبٍ جديدٍ، وزاويةٍ مختلفةٍ، وتركيزٍ على جانبٍ معيَّنٍ يَخدمُ سياقَ السُّورةِ ومَقصدَها.

يقولُ الإمامُ الشَّاطبيُّ (ت 790هـ) في "الموافقاتِ": "إنَّ القصَّةَ الواحدةَ تُذكَرُ في مواضعَ، ويُختلفُ في كلِّ موضعٍ الكلامُ فيها عن الآخرِ؛ فتارةً بزيادةٍ أو نُقصانٍ، وتارةً بتقديمٍ أو تأخيرٍ، وتارةً بإبدالِ لفظٍ مكانَ لفظٍ، وغيرِ ذلكَ من أنواعِ الاختلافِ؛ وهذا مِن خصائصِ إعجازِ القرآنِ".

تأمَّل قصَّةَ موسى عليهِ السَّلامُ التي تَكرَّرَت في أكثرَ مِن ثلاثينَ موضعًا في القرآنِ، وفي كلِّ موضعٍ تُعرَضُ بصورةٍ جديدةٍ، فتارةً يُركَّزُ على مواجهتِه لفرعونَ، وتارةً على معجزاتِه، وتارةً على نجاتِه وقومِه، وتارةً على تربيتِه وإعدادِه للرِّسالةِ، كلُّ ذلكَ بما يُناسبُ سياقَ كلِّ سورةٍ ومَقصدَها.

التناسق البديع في تكرار الألفاظ والعبارات

ومِن رَوائعِ التَّكرارِ في القرآنِ ذلكَ التَّناسقُ البديعُ بينَ الألفاظِ المُكرَّرةِ، سواءٌ في السُّورةِ الواحدةِ أو في سُورٍ مُختلفةٍ، يقولُ الإمامُ الرَّازي (ت 606هـ) في تفسيرِه "مفاتيحُ الغيبِ": "اعلم أنَّ فائدةَ التَّكريرِ تقريرُ المعنى في النَّفسِ؛ لأنَّ الكلامَ إذا تَكرَّرَ تَقرَّرَ، والمعنى إذا تَكرَّرَ تَأكَّدَ".

وانظُر إلى تَكرارِ قولِه تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ في سورةِ المُرسَلاتِ، كيفَ تأتي هذهِ الآيةُ عشرَ مرَّاتٍ، بعدَ كلِّ مشهدٍ مِن مشاهدِ القيامةِ، لتُصوِّرَ هولَ ذلكَ اليومِ، وتُحذِّرَ مِن عاقبةِ التَّكذيبِ، وتُثيرَ في النَّفسِ البشريَّةِ الخوفَ والرَّهبةَ.

يقولُ الشيخُ محمد الطَّاهر بن عاشور (ت 1973م) في "التَّحريرِ والتَّنويرِ": "إنَّ تَكرارَ هذهِ الآيةِ فيهِ تَأكيدٌ للوعيدِ، وتَفظيعٌ للتَّكذيبِ، وإقامةٌ للحُجَّةِ على المُكذِّبينَ، وهوَ أُسلوبٌ بديعٌ في الوعيدِ والتَّخويفِ".

الإعجاز البياني في اختلاف اللفظ المكرر

ومِن دقائقِ الإعجازِ البيانيِّ في القرآنِ الكريمِ أنَّ اللَّفظَ قد يَتكرَّرُ في مواضعَ مُختلفةٍ، ولكنْ معَ اختلافٍ يسيرٍ في بعضِ حروفِه أو كلماتِه، وذلكَ لحِكمةٍ بالغةٍ تَقتضيها البلاغةُ الرَّبَّانيَّةُ.

تأمَّل قولَه تعالى في سورةِ البقرةِ: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾ [البقرة: 58]، وقولَه في سورةِ الأعرافِ: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ [الأعراف: 161].

يقولُ العلاَّمةُ الزَّمخشريُّ (ت 538هـ) في "الكشَّاف": "جاءَ في الأولى 'ادخلوا' وفي الثَّانيةِ 'اسكنوا'؛ لأنَّ سياقَ البقرةِ يَحكي قصَّتَهم مِن بدايتِها حينَ كانوا خارجَ القريةِ، وسياقُ الأعرافِ يَحكيها مُختصَرةً بعدَ أنْ دخلوا القريةَ وأُمروا بالسُّكنِ فيها استقرارًا".

التكرار للتأكيد والتقرير في سياق العقيدة

يَبرزُ التَّكرارُ في القرآنِ بشكلٍ خاصٍّ في آياتِ العقيدةِ والتَّوحيدِ؛ ذلكَ أنَّ العقيدةَ هيَ أساسُ الدِّينِ، والتَّوحيدُ هوَ جوهرُ الرِّسالةِ، وقد تَكرَّرَت آياتُ التَّوحيدِ في القرآنِ الكريمِ بأساليبَ مُتنوِّعةٍ وصِيَغٍ مُختلفةٍ؛ لتُرسِّخَ هذهِ الحقيقةَ في النُّفوسِ، وتَغرسَها في القلوبِ.

يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ (ت 728هـ) في "مجموعِ الفتاوى": "إنَّ اللهَ سبحانَه كرَّرَ التَّوحيدَ في القرآنِ أكثرَ مِن غيرِه؛ لأنَّه أصلُ الدِّينِ وأساسُ المِلَّةِ، وعليهِ مَدارُ السَّعادةِ والنَّجاةِ".

وتأمَّل كيفَ تَكرَّرَت كلمةُ "اللهُ" في القرآنِ أكثرَ مِن ألفي مرَّةٍ، وتَكرَّرَت أسماؤُه الحُسنى وصفاتُه العُليا في كلِّ سورةٍ تقريبًا؛ لتُعمِّقَ في النَّفسِ معرفةَ اللهِ وتَعظيمَه، وتُرسِّخَ اليقينَ بوحدانيَّتِه وكمالِه.

التطبيق العملي للتكرار القرآني في الحياة المعاصرة

إنَّ فَهمَ أسرارِ التَّكرارِ في القرآنِ يَفتحُ أمامَنا آفاقًا واسعةً للتَّطبيقِ العمليِّ في حياتِنا المُعاصرةِ، فالتَّكرارُ في التَّعليمِ والتَّربيةِ مِن أنجحِ الوسائلِ لتَرسيخِ المعرفةِ وتَثبيتِ المعلومةِ.

يقولُ الدكتورُ محمد دراز (ت 1958م) في كتابِه "النَّبأُ العظيمُ": "إنَّ القرآنَ يُعلِّمُنا مِن خلالِ أُسلوبِ التَّكرارِ أنَّ بعضَ الحقائقِ لا تَستقرُّ في النَّفسِ مِن المرَّةِ الأولى، بل تَحتاجُ إلى تَكرارٍ مُستمرٍّ، وتَنويعٍ في طُرقِ العرضِ، وتَلوينٍ في أساليبِ البيانِ".

وفي عصرِنا الحاضرِ، حيثُ تَتزاحمُ المعلوماتُ وتَتسارعُ الأحداثُ، نَحتاجُ إلى استلهامِ الحكمةِ القرآنيَّةِ في التَّكرارِ البديعِ، فنُكرِّرُ الحقائقَ الإيمانيَّةَ والقِيَمَ الأخلاقيَّةَ بأساليبَ مُتجدِّدةٍ، ونُعيدُ طَرحَ القضايا المُهمَّةِ بصورٍ مُختلفةٍ، لتَرسخَ في النُّفوسِ، وتَتحوَّلَ إلى ممارساتٍ حياتيَّةٍ.

خلاصة المقال

إنَّ التَّكرارَ في القرآنِ الكريمِ ليسَ تَكرارًا عاديًّا، بل هوَ تَكرارٌ مُعجِزٌ، يَحملُ في طيَّاتِه أسرارًا بيانيَّةً عميقةً، ودلالاتٍ روحيَّةً ثرَّةً، وإشاراتٍ نفسيَّةً دقيقةً، وهوَ بوابةٌ مِن بواباتِ اليقينِ التي تَقودُ المُتدبِّرَ إلى الإيمانِ العميقِ بإعجازِ القرآنِ، وتُرسِّخُ في قلبِه اليقينَ بأنَّه كلامُ اللهِ المُنزَّلُ، وأنَّه لا يأتيهِ الباطلُ مِن بينِ يديهِ ولا مِن خلفِه.

فلنُحسِن تدبُّرَ القرآنِ، ولنَستكشِف أسرارَ التَّكرارِ فيه، ولنُدرِك أنَّ كلَّ حرفٍ فيه، وكلَّ كلمةٍ فيه، وكلَّ تَكرارٍ فيه، إنَّما هوَ لحكمةٍ بالغةٍ، وغايةٍ ساميةٍ، وهدفٍ نبيلٍ، يَرتقي بالإنسانِ إلى أعلى درجاتِ الكمالِ الإنسانيِّ والسُّموِّ الرُّوحيِّ.